فصل: فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ التَّفْوِيضِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ التَّفْوِيضِ:

وَمِنْ مَنَازِلِ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ التَّفْوِيضِ.
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:
وَهُوَ أَلْطَفُ إِشَارَةً، وَأَوْسَعُ مَعْنًى مِنَ التَّوَكُّلِ، فَإِنَّ التَّوَكُّلَ بَعْدَ وُقُوعِ السَّبَبِ، وَالتَّفْوِيضُ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَبَعْدَهُ. وَهُوَ عَيْنُ الِاسْتِسْلَامِ. وَالتَّوَكُّلُ شُعْبَةٌ مِنْهُ.
يَعْنِي أَنَّ الْمُفَوِّضَ يَتَبَرَّأُ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، وَيُفَوِّضُ الْأَمْرَ إِلَى صَاحِبِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقِيمَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي مَصَالِحِهِ. بِخِلَافَ التَّوَكُّلِ. فَإِنَّ الْوِكَالَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَقُومَ الْوَكِيلُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ.
فَالتَّفْوِيضُ: بَرَاءَةٌ وَخُرُوجٌ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، وَتَسْلِيمُ الْأَمْرِ كُلِّهِ إِلَى مَالِكِهِ.
فَيُقَالُ: وَكَذَلِكَ التَّوَكُّلُ أَيْضًا. وَمَا قَدَحْتُمْ بِهِ فِي التَّوَكُّلِ يَرِدُ عَلَيْكُمْ نَظِيرُهُ فِي التَّفْوِيضِ سَوَاءٌ. فَإِنَّكَ كَيْفَ تُفَوِّضُ شَيْئًا لَا تَمْلِكُهُ الْبَتَّةَ إِلَى مَالِكِهِ؟ وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُفَوِّضَ وَاحِدٌ مِنْ آحَادِ الرَّعِيَّةِ الْمُلْكَ إِلَى مَلِكِ زَمَانِهِ؟
فَالْعِلَّةُ إِذَنْ فِي التَّفْوِيضِ أَعْظَمُ مِنْهَا فِي التَّوَكُّلِ. بَلْ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: التَّوَكُّلُ فَوْقَ التَّفْوِيضِ وَأَجَلُّ مِنْهُ وَأَرْفَعُ، لَكَانَ مُصِيبًا. وَلِهَذَا كَانَ الْقُرْآنُ مَمْلُوءًا بِهِ أَمْرًا، وَإِخْبَارًا عَنْ خَاصَّةِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَصَفْوَةِ الْمُؤْمِنِينَ، بِأَنَّ حَالَهُمُ التَّوَكُّلُ. وَأَمَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، وَسَمَّاهُ الْمُتَوَكِّلَ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ صِفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، سَمَّيْتُهُ الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ، وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا سَخَّابٍ بِالْأَسْوَاقِ.
وَأَخْبَرَ عَنْ رُسُلِهِ بِأَنَّ حَالَهُمْ كَانَ التَّوَكُّلَ. وَبِهِ انْتَصَرُوا عَلَى قَوْمِهِمْ. وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ أَنَّهُمْ أَهْلُ مَقَامِ التَّوَكُّلِ.
وَلَمْ يَجِئِ التَّفْوِيضُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِيمَا حَكَاهُ عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ مِنْ قَوْلِهِ: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ}. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَتَّخِذَهُ وَكِيلًا. فَقَالَ: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}.
وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ جَهَلَةِ الْقَوْمِ: إِنَّ تَوْكِيلَ الرَّبِّ فِيهِ جَسَارَةٌ عَلَى الْبَارِّي؛ لِأَنَّ التَّوَكُّلَ يَقْتَضِي إِقَامَةَ الْوَكِيلِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ. وَذَلِكَ عَيْنُ الْجَسَارَةِ.
قَالَ: وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ ذَلِكَ وَنَدَبَ إِلَيْهِ: لَمَا جَازَ لِلْعَبْدِ تَعَاطِيهِ.
وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ. فَإِنَّ اتِّخَاذَهُ وَكِيلًا هُوَ مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ، وَخَالِصُ التَّوْحِيدِ، إِذَا قَامَ بِهِ صَاحِبُهُ حَقِيقَةً.
وَلِلَّهِ دَرُّ سَيِّدِ الْقَوْمِ، وَشَيْخِ الطَّائِفَةِ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ؛ إِذْ يَقُولُ: الْعِلْمُ كُلُّهُ بَابٌ مِنَ التَّعَبُّدِ. وَالتَّعَبُّدُ كُلُّهُ بَابٌ مِنَ الْوَرَعِ. وَالْوَرَعُ كُلُّهُ بَابٌ مِنَ الزُّهْدِ، وَالزُّهْدُ كُلُّهُ بَابٌ مِنَ التَّوَكُّلِ.
فَالَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ: أَنَّ التَّوَكُّلَ أَوْسَعُ مِنَ التَّفْوِيضِ، وَأَعْلَى وَأَرْفَعُ.

.[التَّفْوِيضُ أَعَمُّ مِنَ التَّوَكُّلِ]:

قَوْلُهُ: فَإِنَّ التَّوَكُّلَ بَعْدَ وُقُوعِ السَّبَبِ، وَالتَّفْوِيضِ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَبَعْدَهُ.
يَعْنِي بِالسَّبَبِ: الِاكْتِسَابَ. فَالْمُفَوَّضُ قَدْ فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ قَبْلَ اكْتِسَابِهِ وَبَعْدَهُ. وَالْمُتَوَكِّلُ قَدْ قَامَ بِالسَّبَبِ. وَتَوَكَّلَ فِيهِ عَلَى اللَّهِ. فَصَارَ التَّفْوِيضُ أَوْسَعُ مِنَ التَّوَكُّلِ.
فَيُقَالُ: وَالتَّوَكُّلُ قَدْ يَكُونُ قَبْلَ السَّبَبِ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ. فَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُقِيمَهُ فِي سَبَبٍ يُوَصِّلُهُ إِلَى مَطْلُوبِهِ. فَإِذَا قَامَ بِهِ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ حَالَ مُبَاشَرَتِهِ. فَإِذَا أَتَمَّهُ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ فِي حُصُولِ ثَمَرَاتِهِ. فَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَهُ، وَمَعَهُ، وَبَعْدَهُ.
فَعَلَى هَذَا: هُوَ أَوْسَعُ مِنَ التَّفْوِيضِ عَلَى مَا ذَكَرَ.
قَوْلُهُ: وَهُوَ عَيْنُ الِاسْتِسْلَامِ؛ أَيِ التَّفْوِيضُ عَيْنُ الِانْقِيَادِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. وَلَا يُبَالِي أَكَانَ مَا يَقْضِي لَهُ الْخَيْرَ. أَمْ خِلَافَهُ؟ وَالْمُتَوَكِّلُ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِي مَصَالِحِهِ.
وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي لَحَظَهُ الْقَوْمُ فِي هَضْمِ مَقَامِ التَّوَكُّلِ، وَرَفَعِ مَقَامِ التَّفْوِيضِ عَلَيْهِ.
وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُفَوِّضَ لَا يُفَوِّضُ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا لِإِرَادَتِهِ أَنْ يَقْضِيَ لَهُ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمَقْضِيُّ لَهُ خِلَافَ مَا يَظُنُّهُ خَيْرًا. فَهُوَ رَاضٍ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ. وَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ جِهَةُ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ. وَهَكَذَا حَالُ الْمُتَوَكِّلِ سَوَاءٌ، بَلْ هُوَ أَرْفَعُ مِنَ الْمُفَوِّضِ؛ لِأَنَّ مَعَهُ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ مَا لَيْسَ مَعَ الْمُفَوِّضِ. فَإِنَّ الْمُتَوَكِّلَ مُفَوِّضٌ وَزِيَادَةٌ. فَلَا يَسْتَقِيمُ مَقَامَ التَّوَكُّلِ إِلَّا بِالتَّفْوِيضِ. فَإِنَّهُ إِذَا فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ اعْتَمَدَ بِقَلْبِهِ كُلِّهِ عَلَيْهِ بَعْدَ تَفْوِيضِهِ.
وَنَظِيرُ هَذَا: أَنَّ مَنْ فَوَّضَ أَمَرَهُ إِلَى رَجُلٍ، وَجَعَلَهُ إِلَيْهِ. فَإِنَّهُ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ- بَعْدَ تَفْوِيضِهِ- اعْتِمَادًا خَاصًّا، وَسُكُونًا وَطُمَأْنِينَةً إِلَى الْمُفَوَّضِ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ قَبْلَ التَّفْوِيضِ. وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ أَهَمَّ مَصَالِحِ الْمُتَوَكِّلِ: حُصُولُ مَرَاضِي مَحْبُوبِهِ وَمَحَابِّهِ. فَهُوَ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي تَحْصِيلِهَا لَهُ. فَأَيُّ مَصْلَحَةٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ؟
وَأَمَّا التَّفْوِيضُ: فَهُوَ تَفْوِيضُ حَاجَاتِ الْعَبْدِ الْمَعِيشِيَّةِ وَأَسْبَابِهَا إِلَى اللَّهِ. فَإِنَّهُ لَا يُفَوِّضُ إِلَيْهِ مَحَابَّهُ. وَالْمُتَوَكِّلُ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي مَحَابِّهِ.
وَالْوَهْمُ إِنَّمَا دَخَلَ مِنْ حَيْثُ يَظُنُّ الظَّانُّ: أَنَّ التَّوَكُّلَ مَقْصُورٌ عَلَى مَعْلُومِ الرِّزْقِ، وَقُوَّةِ الْبَدَنِ، وَصِحَّةِ الْجِسْمِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا التَّوَكُّلَ نَاقِصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّوَكُّلِ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ.

.[دَرَجَاتُ التَّفْوِيضِ]:

.[الدَّرَجَةُ الْأُولَى: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ قَبْلَ عَمَلِهِ اسْتِطَاعَةً].

قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ التَّفْوِيضُ: الْأُولَى: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ قَبْلَ عَمَلِهِ اسْتِطَاعَةً. فَلَا يَأْمَنُ مِنْ مَكْرٍ، وَلَا يَيْأَسُ مِنْ مَعُونَةٍ، وَلَا يُعَوِّلُ عَلَى نِيَّةٍ.
أَيْ يَتَحَقَّقُ أَنَّ اسْتِطَاعَتَهُ بِيَدِ اللَّهِ، لَا بِيَدِهِ، فَهُوَ مَالِكُهَا دُونَهُ. فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُعْطِهِ الِاسْتِطَاعَةَ فَهُوَ عَاجِزٌ. فَهُوَ لَا يَتَحَرَّكُ إِلَّا بِاللَّهِ، لَا بِنَفْسِهِ. فَكَيْفَ يَأْمَنُ الْمَكْرَ، وَهُوَ مُحَرَّكٌ لَا مُحَرِّكٌ؟ يُحَرِّكُهُ مَنْ حَرَكَتُهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ شَاءَ ثَبَّطَهُ وَأَقْعَدَهُ مَعَ الْقَاعِدِينَ.
كَمَا قَالَ فِيمَنْ مَنَعَهُ هَذَا التَّوْفِيقَ: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}.
فَهَذَا مَكْرُ اللَّهِ بِالْعَبْدِ: أَنْ يَقْطَعَ عَنْهُ مَوَادَّ تَوْفِيقِهِ. وَيُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، وَلَا يَبْعَثَ دَوَاعِيهِ، وَلَا يُحَرِّكَهُ إِلَى مِرَاضَيْهِ وَمَحَابِّهِ. وَلَيْسَ هَذَا حَقًّا عَلَى اللَّهِ. فَيَكُونُ ظَالِمًا بِمَنْعِهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ فَضْلِهِ الَّذِي يُحْمَدُ عَلَى بَذْلِهِ لِمَنْ بَذَلَهُ، وَعَلَى مَنْعِهِ لِمَنْ مَنْعَهُ إِيَّاهُ. فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى هَذَا وَهَذَا.
وَمَنْ فَهِمَ هَذَا فَهِمَ بَابًا عَظِيمًا مِنْ سِرِّ الْقَدَرِ، وَانْجَلَتْ لَهُ إِشْكَالَاتٌ كَثِيرَةٌ. فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُرِيدُ مِنْ نَفْسِهِ فِعْلًا يَفْعَلُهُ بِعَبْدِهِ يَقَعُ مِنْهُ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. فَيَمْنَعُهُ فِعْلَ نَفْسِهِ بِهِ، وَهُوَ تَوْفِيقُهُ؛ لِأَنَّهُ يَكْرَهُهُ، وَيَقْهَرُهُ عَلَى فِعْلِ مَسَاخِطِهِ، بَلْ يَكِلُهُ إِلَى نَفْسِهِ وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَيَتَخَلَّى عَنْهُ. فَهَذَا هُوَ الْمَكْرُ.
قَوْلُهُ: وَلَا يَيْأَسُ مِنْ مَعُونَةٍ، يَعْنِي إِذَا كَانَ الْمُحَرِّكُ لَهُ هُوَ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ. وَهُوَ أَقْدَرُ الْقَادِرِينَ. وَهُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِخَلْقِهِ وَرِزْقِهِ. وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. فَكَيْفَ يَيْأَسُ مِنْ مَعُونَتِهِ لَهُ؟
قَوْلُهُ: وَلَا يُعَوِّلُ عَلَى نِيَّةٍ، أَيْ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى نِيَّتِهِ وَعَزْمِهِ، وَيَثِقُ بِهَا. فَإِنَّ نِيَّتَهُ وَعَزْمَهُ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِيَدِهِ. وَهِيَ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَيْهِ. فَلْتَكُنْ ثِقَتُهُ بِمَنْ هِيَ فِي يَدِهِ حَقًّا، لَا بِمَنْ هِيَ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ حُكْمًا.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: مُعَايَنَةُ الِاضْطِرَارِ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: مُعَايَنَةُ الِاضْطِرَارِ. فَلَا يَرَى عَمَلًا مُنْجِيًا، وَلَا ذَنْبًا مُهْلِكًا، وَلَا سَبَبًا حَامِلًا.
أَيْ يُعَايِنُ فَقْرَهُ وَفَاقَتَهُ وَضَرُورَتَهُ التَّامَّةَ إِلَى اللَّهِ، بِحَيْثُ إِنَّهُ يَرَى فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ ضَرُورَةً، وَفَاقَةً تَامَّةً إِلَى اللَّهِ. فَنَجَاتُهُ إِنَّمَا هِيَ بِاللَّهِ لَا بِعَمَلِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا ذَنْبًا مُهْلِكًا، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ: أَنَّ هَلَاكَهُ بِاللَّهِ لَا بِسَبَبِ ذُنُوبِهِ: فَبَاطِلٌ، مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ أَرَادَ بِهِ: أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ وَسَعَتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرَحْمَتَهُ، وَمُشَاهَدَةَ شِدَّةِ ضَرُورَتِهِ وَفَاقَتِهِ إِلَيْهِ يُوجِبُ لَهُ أَنْ لَا يَرَى ذَنْبًا مُهْلِكًا، فَإِنَّ افْتِقَارَهُ وَفَاقَتَهُ وَضَرُورَتَهُ تَمْنَعُهُ مِنَ الْهَلَاكِ بِذُنُوبِهِ، بَلْ تَمْنَعُهُ مِنَ اقْتِحَامِ الذُّنُوبِ الْمُهْلِكَةِ؛ إِذْ صَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ لَا يُصِرُّ عَلَى ذُنُوبٍ تُهْلِكُهُ. وَهَذَا حَالُهُ- فَهَذَا حَقٌّ. وَهُوَ مِنْ مَشَاهِدِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَا سَبَبًا حَامِلًا. أَيْ: يَشْهَدُ أَنَّ الْحَامِلَ لَهُ هُوَ الْحَقُّ تَعَالَى، لَا الْأَسْبَابُ الَّتِي يَقُومُ بِهَا. فَإِنَّهُ وَإِيَّاهَا مَحْمُولَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: شُهُودُ انْفِرَادِ الْحَقِّ بِمِلْكِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: شُهُودُ انْفِرَادِ الْحَقِّ بِمِلْكِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَالْقَبْضِ وَالْبَسْطِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِتَصْرِيفِ التَّفْرِقَةِ وَالْجَمْعِ.
هَذِهِ الدَّرَجَةُ تَتَعَلَّقُ بِشُهُودِ وَصْفِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَشَأْنِهِ. وَالَّتِي قَبْلَهَا تَتَعَلَّقُ بِشُهُودِ حَالِ الْعَبْدِ وَوَصْفِهِ. أَيْ يَشْهَدُ حَرَكَاتِ الْعَالَمِ وَسُكُونَهُ صَادِرَةً عَنِ الْحَقِّ تَعَالَى فِي كُلِّ مُتَحَرِّكٍ وَسَاكِنٍ، فَيَشْهَدُ تَعَلُّقَ الْحَرَكَةِ بِاسْمِهِ الْبَاسِطِ وَتَعَلُّقَ السُّكُونِ بِاسْمِهِ الْقَابِضِ فَيَشْهَدُ تَفَرُّدَهُ سُبْحَانَهُ بِالْبَسْطِ وَالْقَبْضِ.
وَأَمَّا مَعْرِفَتُهُ بِتَصْرِيفِ التَّفْرِقَةِ وَالْجَمْعِ فَأَنْ يَكُونَ الْمُشَاهِدُ عَارِفًا بِمَوَاضِعِ التَّفْرِقَةِ وَالْجَمْعِ. وَالْمُرَادُ بِالتَّفْرِقَةِ: نَظَرُ الِاعْتِبَارِ، وَنِسْبَةُ الْأَفْعَالِ إِلَى الْخَلْقِ.
وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ: شُهُودُ الْأَفْعَالِ مَنْسُوبَةً إِلَى مُوجِدِهَا الْحَقِّ تَعَالَى.
وَقَدْ يُرِيدُونَ بِالتَّفْرِقَةِ وَالْجَمْعِ مَعْنًى وَرَاءَ هَذَا الشُّهُودِ. وَهُوَ حَالُ التَّفْرِقَةِ وَالْجَمْعِ.
فَحَالُ التَّفْرِقَةِ: تَفَرُّقُ الْقَلْبِ فِي أَوْدِيَةِ الْإِرَادَاتِ وَشِعَابِهَا. وَحَالُ الْجَمْعِ: جَمْعِيَّتُهُ عَلَى مُرَادِ الْحَقِّ وَحْدَهُ. فَالْأَوَّلُ: عِلْمُ التَّفْرِقَةِ وَالْجَمْعِ. وَالثَّانِي: حَالُهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ الثِّقَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى:

وَمِنْ مَنَازِلِ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الثِّقَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:
الثِّقَةُ: سَوَادُ عَيْنِ التَّوَكُّلِ. وَنُقْطَةُ دَائِرَةِ التَّفْوِيضِ. وَسُوَيْدَاءُ قَلْبِ التَّسْلِيمِ.
وَصَدَّرَ الْبَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِأُمِّ مُوسَى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي}. فَإِنَّ فِعْلَهَا هَذَا هُوَ عَيْنُ ثِقَتِهَا بِاللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَوْلَا كَمَالُ ثِقَتِهَا بِرَبِّهَا لَمَا أَلْقَتْ بِوَلَدِهَا وَفِلْذَةِ كَبِدِهَا فِي تَيَّارِ الْمَاءِ، تَتَلَاعَبُ بِهِ أَمْوَاجُهُ، وَجَرْيَاتُهُ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي أَوْ يَقِفُ.
وَمُرَادُهُ: أَنَّ الثِّقَةَ خُلَاصَةُ التَّوَكُّلِ وَلُبُّهُ، كَمَا أَنَّ سَوَادَ الْعَيْنِ: أَشْرَفُ مَا فِي الْعَيْنِ.
وَأَشَارَ بِأَنَّهُ نُقْطَةُ دَائِرَةِ التَّفْوِيضِ إِلَى أَنَّ مَدَارَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي وَسَطِهِ كَحَالِ النُّقْطَةِ مِنَ الدَّائِرَةِ. فَإِنَّ النُّقْطَةَ هِيَ الْمُرَكَّزُ الَّذِي عَلَيْهِ اسْتِدَارَةُ الْمُحِيطِ، وَنِسْبَةُ جِهَاتِ الْمُحِيطِ إِلَيْهَا نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُحِيطِ مُقَابِلٌ لَهَا. كَذَلِكَ الثِّقَةُ هِيَ النُّقْطَةُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا التَّفْوِيضُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: سُوَيْدَاءُ قَلْبِ التَّسْلِيمِ. فَإِنَّ الْقَلْبَ أَشْرَفُ مَا فِيهِ سُوَيْدَاؤُهُ، وَهِيَ الْمُهْجَةُ الَّتِي تَكُونُ بِهَا الْحَيَاةُ، وَهِيَ فِي وَسَطِهِ. فَلَوْ كَانَ التَّفْوِيضُ قَلْبًا لَكَانَتِ الثِّقَةُ سُوَيْدَاءَهُ. وَلَوْ كَانَ عَيْنًا لَكَانَتْ سَوَادَهَا. وَلَوْ كَانَ دَائِرَةً لَكَانَتْ نُقْطَتَهَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُفَسِّرُ التَّوَكُّلَ بِالثِّقَةِ. وَيَجْعَلُهُ حَقِيقَتَهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالتَّفْوِيضِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالتَّسْلِيمِ.
فَعَلِمْتُ أَنَّ مَقَامَ التَّوَكُّلِ يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ.
فَكَأَنَّ الثِّقَةَ عِنْدَ الشَّيْخِ هِيَ رُوحٌ، وَالتَّوَكُّلَ كَالْبَدَنِ الْحَامِلِ لَهَا، وَنِسْبَتَهَا إِلَى التَّوَكُّلِ كَنِسْبَةِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْإِيمَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [دَرَجَاتُ الثِّقَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى]:

.[الدَّرَجَةُ الْأُولَى دَرَجَةُ الْإِيَاسِ]:

قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ الثِّقَةُ بِاللَّهِ تَعَالَى: الدَّرَجَةُ الْأُولَى: دَرَجَةُ الْإِيَاسِ. وَهُوَ إِيَاسُ الْعَبْدِ عَنْ مُقَاوَمَاتِ الْأَحْكَامِ. لِيَقْعُدَ عَنْ مُنَازَعَةِ الْأَقْسَامِ، لِيَتَخَلَّصَ مِنْ قِحَةِ الْإِقْدَامِ.
يَعْنِي أَنَّ الْوَاثِقَ بِاللَّهِ لِاعْتِقَادِهِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا حَكَمَ بِحُكْمٍ وَقَضَى أَمْرًا. فَلَا مَرَدَّ لِقَضَائِهِ. وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. فَمَنْ حَكَمَ اللَّهُ لَهُ بِحُكْمٍ، وَقَسَمَ لَهُ بِنَصِيبٍ مِنَ الرِّزْقِ، أَوِ الطَّاعَةِ أَوِ الْحَالِ، أَوِ الْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِ: فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِهِ لَهُ. وَمَنْ لَمْ يَقْسِمْ لَهُ ذَلِكَ: فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَيْهِ الْبَتَّةَ. كَمَا لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الطَّيَرَانِ إِلَى السَّمَاءِ، وَحَمْلِ الْجِبَالِ- فَبِهَذَا الْقَدْرِ يَقْعُدُ عَنْ مُنَازَعَةِ الْأَقْسَامِ. فَمَا كَانَ لَهُ مِنْهَا فَسَوْفَ يَأْتِيهِ عَلَى ضَعْفِهِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهَا فَلَنْ يَنَالَهُ بِقُوَّتِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: مُقَاوَمَةُ الْأَحْكَامِ وَمُنَازَعَةُ الْأَقْسَامِ، أَنَّ مُقَاوَمَةَ الْأَحْكَامِ: أَنْ تَتَعَلَّقَ إِرَادَتُهُ بِعَيْنِ مَا فِي حُكْمِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ. فَإِذَا تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِذَلِكَ جَاذَبَ الْخَلْقَ الْأَقْسَامَ وَنَازَعَهُمْ فِيهَا.
وَقَوْلُهُ: يَتَخَلَّصُ مِنْ قِحَةِ الْإِقْدَامِ؛ أَيْ يَتَخَلَّصُ بِالثِّقَةِ بِاللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْقِحَةِ وَالْجُرْأَةِ عَلَى إِقْدَامِهِ عَلَى مَا لَمْ يَحْكُمْ لَهُ بِهِ وَلَا قَسَمَ لَهُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: دَرَجَةُ الْأَمْنِ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: دَرَجَةُ الْأَمْنِ. وَهُوَ أَمْنُ الْعَبْدِ مِنْ فَوْتِ الْمَقْدُورِ. وَانْتِقَاضِ الْمَسْطُورِ. فَيَظْفَرُ بِرَوْحِ الرِّضَا، وَإِلَّا فَبِعَيْنِ الْيَقِينِ. وَإِلَّا فَبِلُطْفِ الصَّبْرِ.
يَقُولُ: مَنْ حَصَلَ لَهُ الْإِيَاسُ الْمَذْكُورُ حَصَلَ لَهُ الْأَمْنُ. وَذَلِكَ: أَنَّ مِنْ تَحَقَّقَ بِمُعَرَّفَةِ اللَّهِ، وَأَنَّ مَا قَضَاهُ اللَّهُ فَلَا مَرَدَّ لَهُ الْبَتَّةَ: أَمِنَ مِنْ فَوْتِ نَصِيبِهِ الَّذِي قَسَمَهُ اللَّهُ لَهُ. وَأَمِنَ أَيْضًا مِنْ نُقْصَانِ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ لَهُ، وَسَطَّرَهُ فِي الْكِتَابِ الْمَسْطُورِ. فَيَظْفَرُ بِرَوْحِ الرِّضَا، أَيْ بِرَاحَتِهِ وَلَذَّتِهِ وَنَعِيمِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الرِّضَا فِي رَاحَةٍ وَلَذَّةٍ وَسُرُورٍ. كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ- بِعَدْلِهِ وَقِسْطِهِ- جَعَلَ الرَّوْحَ وَالْفَرَحَ فِي الْيَقِينِ وَالرِّضَا. وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحَزَنَ فِي الشَّكِّ وَالسُّخْطِ».
فَإِنْ لَمْ يَقْدِرِ الْعَبْدُ عَلَى رَوْحِ الرِّضَا ظَفِرَ بِعَيْنِ الْيَقِينِ؛ وَهُوَ قُوَّةُ الْإِيمَانِ، وَمُبَاشَرَتُهُ لِلْقَلْبِ. بِحَيْثُ لَا يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِيَانِ إِلَّا كَشْفُ الْحِجَابِ الْمَانِعِ مِنْ مُكَافَحَةِ الْبَصَرِ.
فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الْمَقَامُ حَصَلَ عَلَى لُطْفِ الصَّبْرِ وَمَا فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ. كَمَا فِي الْأَثَرِ الْمَعْرُوفِ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِينِ فَافْعَلْ. فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ النَّفْسُ خَيْرًا كَثِيرًا.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مُعَايَنَةُ أَزَلِيَّةِ الْحَقِّ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: مُعَايَنَةُ أَزَلِيَّةِ الْحَقِّ. لِيَتَخَلَّصَ مِنْ مِحَنِ الْقُصُودِ، وَتَكَالِيفِ الْحِمَايَاتِ، وَالتَّعْرِيجِ عَلَى مَدَارِجِ الْوَسَائِلِ.
قَوْلُهُ: مُعَايَنَةُ أَزَلِيَّةِ الْحَقِّ؛ أَيْ مَتَى شَهِدَ قَلْبُهُ تَفَرُّدَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْأَزَلِيَّةِ، غَابَ بِهَا عَنِ الطَّلَبِ، لِتَيَقُّنِهِ فَرَاغَ الرَّبِّ تَعَالَى مِنَ الْمَقَادِيرِ، وَسَبْقَ الْأَزَلِ بِهَا، وَثُبُوتِ حُكْمِهَا هُنَاكَ. فَيَتَخَلَّصُ مِنَ الْمِحَنِ الَّتِي تُعْرَضُ لَهُ دُونَ الْمَقْصُودِ. وَيَتَخَلَّصُ أَيْضًا مِنْ تَعْرِيجِهِ وَالْتِفَاتِهِ، وَحَبْسِ مَطِيَّتِهِ عَلَى طُرُقِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى الْمَطَالِبِ.
وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ. فَإِنَّ مَدَارِجَ الْوَسَائِلِ قِسْمَانِ: وَسَائِلُ مُوصِلَةٌ إِلَى عَيْنِ الرِّضَا. فَالتَّعْرِيجُ عَلَى مَدَارِجِهَا- مَعْرِفَةً وَعَمَلًا وَحَالًا وَإِيثَارًا- هُوَ مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ. وَلَكِنْ لَا يَجْعَلُ تَعْرِيجَهُ كُلَّهُ عَلَى مَدَارِجِهَا. بِحَيْثُ يَنْسَى بِهَا الْغَايَةَ الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ إِلَيْهَا.
وَأَمَّا تَخَلُّصُهُ مِنْ تَكَالِيفِ الْحِمَايَاتِ فَهُوَ تَخَلُّصُهُ مِنْ طَلَبِ مَا حَمَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَدَرًا. فَلَا يَتَكَلَّفُ طَلَبَهُ وَقَدْ حُمِي عَنْهُ.
وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ يَتَخَلَّصَ بِمُشَاهَدَةِ سَبْقِ الْأَزَلِيَّةِ مِنْ تَكَالِيفِ احْتِرَازَاتِهِ، وَشَدَّةِ احْتِمَائِهِ مِنَ الْمَكَارِهِ، لِعِلْمِهِ بِسَبْقِ الْأَزَلِ بِمَا كُتِبَ لَهُ مِنْهَا. فَلَا فَائِدَةَ فِي تَكَلُّفِ الِاحْتِمَاءِ. نَعَمْ، يَحْتَمِي مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ، وَمَا لَا يَنْفَعُهُ فِي طَرِيقِهِ. وَلَا يُعِينُهُ عَلَى الْوُصُولِ.

.فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ التَّسْلِيمِ:

وَمِنْ مَنَازِلِ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ التَّسْلِيمِ.
وَهِيَ نَوْعَانِ: تَسْلِيمٌ لِحُكْمِهِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ. وَتَسْلِيمٌ لِحُكْمِهِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ تَسْلِيمُ الْمُؤْمِنِينَ الْعَارِفِينَ. قَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: التَّحْكِيمُ، وَسِعَةُ الصَّدْرِ بِانْتِفَاءِ الْحَرَجِ، وَالتَّسْلِيمُ.
وَأَمَّا التَّسْلِيمُ لِلْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ: فَمَزَلَّةُ أَقْدَامٍ، وَمَضَلَّةُ أَفْهَامٍ. حَيَّرَ الْأَنَامَ، وَأَوْقَعَ الْخِصَامَ. وَهِيَ مَسْأَلَةُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَبَيَّنَّا أَنَّ التَّسْلِيمَ لِلْقَضَاءِ يُحْمَدُ إِذَا لَمْ يُؤْمَرِ الْعَبْدُ بِمُنَازَعَتِهِ وَدَفْعِهِ. وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، كَالْمَصَائِبِ الَّتِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى دَفْعِهَا.
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي أُمِرَ بِدَفْعِهَا: فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّسْلِيمُ إِلَيْهَا، بَلِ الْعُبُودِيَّةُ: مُدَافَعَتُهَا بِأَحْكَامٍ أُخَرَ أَحَبِّ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا.

.فَصْلٌ: [التَّسْلِيمُ الصَّادِرُ عَنِ الرِّضَا وَالِاخْتِيَارِ]:

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:
وَفِي التَّسْلِيمِ وَالثِّقَةِ وَالتَّفْوِيضِ: مَا فِي التَّوَكُّلِ مِنَ الْعِلَلِ. وَهُوَ مِنْ أَعْلَى دَرَجَاتِ سُبُلِ الْعَامَّةِ.
يَعْنِي أَنَّ الْعِلَلَ الَّتِي فِي التَّوَكُّلِ مِنْ مَعَانِي الدَّعْوَى، وَنِسْبَتِهِ الشَّيْءَ إِلَى نَفْسِهِ أَوَّلًا، حَيْثُ زَعَمَ أَنَّهُ وَكَّلَ رَبَّهِ فِيهِ، وَتُوَكَّلَ عَلَيْهِ فِيهِ. وَجَعَلَهُ وَكِيلَهُ، الْقَائِمَ عَنْهُ بِمَصَالِحِهِ الَّتِي كَانَ يُحَصِّلُهَا لِنَفْسِهِ بِالْأَسْبَابِ وَالتَّصَرُّفَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِي ذَلِكَ.
وَلَيْسَ فِي التَّسْلِيمِ إِلَّا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ: وَهِيَ أَنْ لَا يَكُونَ تَسْلِيمُهُ صَادِرًا عَنْ مَحْضِ الرِّضَا وَالِاخْتِيَارِ، بَلْ يَشُوبُهُ كُرْهٌ وَانْقِبَاضٌ، فَيُسَلِّمُ عَلَى نَوْعِ إِغْمَاضٍ. فَهَذِهِ عِلَّةُ التَّسْلِيمِ الْمُؤَثِّرَةِ. فَاجْتَهِدْ فِي الْخَلَاصِ مِنْهَا.
وَإِنَّمَا كَانَ لِلْعَامَّةِ عِنْدَهُ، لِأَنَّ الْخَاصَّةَ فِي شُغْلٍ عَنْهُ بِاسْتِغْرَاقِهِمْ بِالْفَنَاءِ فِي عَيْنِ الْجَمْعِ. وَجَعْلُ الْفَنَاءِ غَايَةَ الِاسْتِغْرَاقِ فِي عَيْنِ الْجَمْعِ: هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ مَا أَوْجَبَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

.[دَرَجَاتُ التَّسْلِيمِ]:

.[الدَّرَجَةُ الْأُولَى تَسْلِيمُ مَا يُزَاحِمُ الْعُقُولَ مِمَّا سَبَقَ عَلَى الْأَوْهَامِ مِنَ الْغَيْبِ]:

قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ التَّسْلِيمُ: الدَّرَجَةُ الْأُولَى: تَسْلِيمُ مَا يُزَاحِمُ الْعُقُولَ مِمَّا سَبَقَ عَلَى الْأَوْهَامِ مِنَ الْغَيْبِ، وَالْإِذْعَانُ لِمَا يُغَالِبُ الْقِيَاسَ مِنْ سَيْرِ الدُّوَلِ وَالْقِسَمِ، وَالْإِجَابَةِ لِمَا يُفْزِعُ الْمُرِيدَ مِنْ رُكُوبِ الْأَحْوَالِ.
اعْلَمْ أَنَّ التَّسْلِيمَ هُوَ الْخَلَاصُ مِنْ شُبْهَةِ تَعَارُضِ الْخَبَرِ، أَوْ شَهْوَةِ تَعَارُضِ الْأَمْرِ، أَوْ إِرَادَةِ تَعَارُضِ الْإِخْلَاصِ، أَوِ اعْتِرَاضٍ يُعَارِضُ الْقَدَرَ وَالشَّرْعَ. وَصَاحِبُ هَذَا التَّخَلُّصِ: هُوَ صَاحِبُ الْقَلْبِ السَّلِيمِ الَّذِي لَا يَنْجُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِهِ، فَإِنَّ التَّسْلِيمَ ضِدُّ الْمُنَازَعَةِ.
وَالْمُنَازَعَةُ: إِمَّا بِشُبْهَةٍ فَاسِدَةٍ، تُعَارِضُ الْإِيمَانَ بِالْخَبَرِ عَمَّا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الْيَوْمِ الْآخِرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَالتَّسْلِيمُ لَهُ: تَرْكُ مُنَازَعَتِهِ بِشُبُهَاتِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْبَاطِلَةِ.
وَإِمَّا بِشَهْوَةٍ تُعَارِضُ أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَالتَّسْلِيمُ لِلْأَمْرِ بِالتَّخَلُّصِ مِنْهَا.
أَوْ إِرَادَةٍ تُعَارِضُ مُرَادَ اللَّهِ مِنْ عَبْدِهِ، فَتُعَارِضُهُ إِرَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمُرَادِ الْعَبْدِ مِنَ الرَّبِّ. فَالتَّسْلِيمُ: بِالتَّخَلُّصِ مِنْهَا.
أَوِ اعْتِرَاضٍ يُعَارِضُ حِكْمَتَهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، بِأَنْ يَظُنَّ أَنَّ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ خِلَافُ مَا شَرَعَ، وَخِلَافُ مَا قَضَى وَقَدَّرَ. فَالتَّسْلِيمُ: التَّخَلُّصُ مِنْ هَذِهِ الْمُنَازَعَاتِ كُلِّهَا.
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ مِنْ أَجَلِّ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ، وَأَعْلَى طُرُقِ الْخَاصَّةِ، وَأَنَّ التَّسْلِيمَ هُوَ مَحْضُ الصِّدِّيقِيَّةِ، الَّتِي هِيَ بَعْدَ دَرَجَةِ النُّبُوَّةِ، وَأَنَّ أَكْمَلَ النَّاسِ تَسْلِيمًا: أَكْمَلُهُمْ صِدِّيقِيَّةً.
فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِ الشَّيْخِ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ: تَسْلِيمُ مَا يُزَاحِمُ الْعُقُولَ مِمَّا سَبَقَ عَلَى الْأَوْهَامِ.
فَيَعْنِي: أَنَّ التَّسْلِيمَ يَقْتَضِي مَا يَنْهَى عَنْهُ الْعَقْلُ وَيُزَاحِمُهُ. فَإِنَّهُ يَقْتَضِي التَّجْرِيدَ عَنِ الْأَسْبَابِ. وَالْعَقْلُ يَأْمُرُ بِهَا. فَصَاحِبُ التَّسْلِيمِ يُسَلِّمُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا هُوَ غَيْبٌ عَنِ الْعَبْدِ. فَإِنَّ فِعْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَنْهَى الْعَقْلُ عَنِ التَّجَرُّدِ عَنْهَا. فَإِذَا سَلَّمَ لِلَّهِ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى السَّبَبِ فِي كُلِّ مَا غَابَ عَنْهُ.
فَالْأَوْهَامُ يَسْبِقُ عَلَيْهَا: أَنَّ مَا غَابَ عَنْهَا مِنَ الْحِكَمِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْأَسْبَابِ. وَالتَّسْلِيمُ يَقْتَضِي التَّجَرُّدَ عَنْهَا. وَالْعَقْلُ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ. وَالْوَهْمُ قَدْ سَبَقَ عَلَيْهِ أَنَّ الْغَيْبَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا.
فَهَاهُنَا أُمُورٌ سِتَّةٌ: عَقْلٌ، وَمُزَاحِمٌ لَهُ، وَوَهْمٌ، وَسَائِقٌ إِلَيْهِ، وَغَيْبٌ، وَتَسْلِيمٌ لِهَذَا الْمُزَاحِمِ.
فَالْعَقْلُ هُوَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الْأَسْبَابِ، الدَّاعِي لَهُ إِلَيْهَا، الَّتِي إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ عَنْهَا عُدَّ خُرُوجُهُ قَدْحًا فِي عَقْلِهِ.
وَالْمُزَاحِمُ لَهُ: التَّجَرُّدُ عَنْهَا بِكَمَالِ التَّسْلِيمِ إِلَى مَنْ بِيَدِهِ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ: مَوَارِدُهَا وَمَصَادِرُهَا.
وَالْوَهْمُ: اعْتِقَادُهُ تَوَقُّفَ حُصُولِ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ، وَحُصُولِ الْمَقْدُورِ- كَائِنًا مَا كَانَ- عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ لَوْلَاهَا لَمَا حَصَلَ الْمَقْدُورُ.
وَهَذَا هُوَ السَّائِقُ إِلَى الْوَهْمِ.
وَالْغَيْبُ: هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي غَابَ عَنْهُ. وَهُوَ فِعْلُ اللَّهِ.
وَالتَّسْلِيمُ: تَسْلِيمُ هَذَا الْمُزَاحِمِ إِلَى نَفْسِ الْحُكْمِ.
مَعَ أَنَّ فِي تَنْزِيلِ عِبَارَتِهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَإِفْرَاغِ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوَالِبَ أَلْفَاظِهِ نَظَرًا.
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: التَّسْلِيمُ لِمَا يَبْدُو لِلْعَبْدِ مِنْ مَعَانِي الْغَيْبِ مِمَّا يُزَاحِمُ مَعْقُولَهُ فِي بَادِيَ الرَّأْيِ، لِمَا يَسْبِقُ إِلَى وَهْمِهِ: أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِهِ. فَيَسْبِقُ عَلَى الْأَوْهَامِ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي أَخْبَرْتُ بِهِ شَيْءٌ يُزَاحِمُ مَعْقُولَهَا فَتَقَعُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَ حُكْمِ الْعَقْلِ وَحُكْمِ الْوَهْمِ. فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْغَيْبِ قَدْ يُزَاحِمُ الْعَقْلَ بَعْضَ الْمُزَاحَمَةِ، وَيَسْبِقُ إِلَى الْوَهْمِ خِلَافُهُ. فَالتَّسْلِيمُ: تَسْلِيمُ هَذَا الْمُزَاحِمِ إِلَى وَلِيِّهِ، وَمَنْ هُوَ أَخْبَرُ بِهِ، وَالتَّجَرُّدُ عَمَّا يَسْبِقُ إِلَى الْوَهْمِ مِمَّا يُخَالِفُهُ.
وَهَذَا أَوْلَى الْمَعْنَيَيْنِ بِكَلَامِهِ. إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَالْأَوَّلُ: تَسْلِيمُ مُنَازَعَاتِ الْأَسْبَابِ لِتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ الْعَمَلِيِّ الْقَصْدِيِّ الْإِرَادِيِّ. وَهَذَا تَجْرِيدُ مُنَازَعَاتِ الْأَوْهَامِ الْمُخَالِفَةِ لِلْخَبَرِ لِتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ الْعِلْمِيِّ الْخَبَرِيِّ الِاعْتِقَادِيِّ. وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّسْلِيمِ.
قَوْلُهُ: وَالْإِذْعَانُ لِمَا يُغَالِبُ الْقِيَاسَ، مِنْ سَيْرِ الدُّوَلِ وَالْقِسَمِ.
أَيِ الِانْقِيَادُ لِمَا يُقَاوِي عَقْلَهُ وَقِيَاسَهُ، مِمَّا جَرَى بِهِ حُكْمُ اللَّهِ فِي الدُّوَلِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا: مِنْ طَيِّ دَوْلَةٍ، وَنَشْرِ دَوْلَةٍ، وَإِعْزَازِ هَذِهِ وَإِذْلَالِ هَذِهِ، وَالْقِسَمِ الَّتِي قَسَّمَهَا عَلَى خَلْقِهِ، مَعَ شِدَّةِ تَفَاوُتِهَا، وَتَبَايُنِ مَقَادِيرِهَا، وَكَيْفِيَّاتِهَا وَأَجْنَاسِهَا، فَيُذْعِنُ لِحِكْمَةِ اللَّهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهَا بِشُبْهَةٍ وَقِيَاسٍ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِـ الدُّوَلِ وَالْقِسَمِ الْأَحْوَالَ الَّتِي تُتَدَاوَلُ عَلَى السَّالِكِ وَيَخْتَلِفُ سَيْرُهَا. وَالْقِسَمُ الَّتِي نَالَتْهُ مِنَ اللَّهِ: مَا كَانَ قِيَاسُ سَعْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ أَنْ يُحَصِّلَ لَهُ أَكْثَرَ مِنْهَا. فَيُذْعِنُ لِمَا غَالَبَ قِيَاسُهُ مِنْهَا، وَيُسَلِّمُ لِلْقَاسِمِ الْمُعْطِي بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ. فَإِنَّ مِنْ عِبَادِهِ مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْفَقْرُ. وَلَوْ أَغْنَاهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْغِنَى. وَلَوْ أَفْقَرَهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْمَرَضُ. وَلَوْ أَصَحَّهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الصِّحَّةُ. وَلَوْ أَمْرَضَهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: وَالْإِجَابَةُ لِمَا يُفْزِعُ الْمُرِيدُ مِنْ رُكُوبِ الْأَحْوَالِ.
يَقُولُ: إِنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنْ قُوَّةِ التَّسْلِيمِ يَهْجُمُ عَلَى الْأُمُورِ الْمُفْزِعَةِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا. وَلَا يَخَافُ مَعَهَا مِنْ رُكُوبِ الْأَحْوَالِ، وَاقْتِحَامِ الْأَهْوَالِ؛ لِأَنَّ قُوَّةَ تَسْلِيمِهِ تَحْمِيهِ مِنْ خَطَرِهَا. فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخَافَ. فَإِنَّهُ فِي حِصْنِ التَّسْلِيمِ وَمِنْعَتِهِ وَحِمَايَتِهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفَّقُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ.